فصل: الخبر عن دولة السلطان وما كان فيها من الأحداث وشأن الخوارج لأول دولته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن وفادة الطاغية شانجة وانعقاد السلم ومهلك السلطان على تفيئة ذلك:

لما نزل ببلاد النصرانية بلاد ابن أدفونش من أمير المسلمين ما نزل من تدمير قراهم واكتساح أموالهم وسبي نسائهم وإبادة مقاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف عمرانهم زاغت منهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر واستيقنوا أن لا عاصم من أمير المسلمين فاجتمعوا إلى طاغيتهم شانجة خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة متوجعين مما أذاقهم جنود الله من سوء العذاب وأليم النكال وحملوه على الضراعة لأمير المسلمين في السلم وإيفاد الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك وإلا فلا تزال تصيبهم منه قارعة وتحل قريبا من دارهم فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف والهضيمة لدينه وأوفد على أمير المسلمين من بطارقتهم وشمامستهم وأساقفهم يخطبون السلم ويضرعون في المهادنة والإبقاء ووضع أوزار الحرب فردهم أمير المسلمين اعتزازا عليهم ثم أعادهم الطاغية بترديد الرغبة على أن يشترط ما شاء من عز دينه وقومه فأسعفهم أمير المسلمين وجنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه وذلهم لعز الإسلام وأجابهم إلى ما سألوه واشترط عليهم ما تقبلوه من مسالمة المسلمين كافة من قومه وغير قومه والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو عداوتهم ورفع الضريبة عن تجار المسلمين بدار الحرب من بلاده وترك التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة وبعث لعمه عبد الحق ابن الترجمان باشتراط ذلك وأحكام عقده فاستبلغ وأكد في الوفاء ووفدت رسل ابن الأحمر على الطاغية وهو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين على قومه ومدافعته عنهم فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان وأسمعهم ما عقد أمير المسلمين على قومه وأهل ملته وقال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم والحرب وهذا أمير المسلمين ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عنكم فانصرفوا ولما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان وسوس إليه بالوفادة لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة وأراه مغبة ذلك في سل السخيمة وتسكين الحفيظة وتمكين الألفة فصغى إلى وفاته وسأل لقي الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه فوصل إليه ولقيه على فراسخ من شريش وباتا بمعسكر المسلمين هنالك ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين وقد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه إظهار شعار الإسلام أبهته فاحتفلوا وتأهبوا وأظهروا عز الملة وشدة الشوكة ووفور الحامية ولقيه أمير المسلمين بأحسن مبرة وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء الملل وقدم الطاغية بين يديه هدية أتحف بها أمير المسلمين وابنه من ظرف بلاده كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمى بالفيل وحمارة من حمر الوحش إلى غير ذلك من الظرف فقبلها السلطان وابنه وقابلوه بكفائها ومضاعفتها وكمل عقد السلم وتقبل الطاغية سائر الشروط ورضي بعز الإسلام عنه وانقلب إلى قومه بملء صدره من الرضا والمسرة وسأل منه أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام فاستكثر من أصنافها قي ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه فوقفها السلطان بالمدرسة التي أسسها بفاس لطلب العلم وقفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان فقضى صومه ونسكه وجعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم وأعد الشعراء كلمات أنشدوها يوم الفطر بمشهد الملأ في مجلس أمير المسلمين وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة عزوز المكانسي ذكر فيها سير أمير المسلمين وغواته على نسق.
ثم أعمل أمير المسلمين نظره في الثغور فرتب بها المسالح وعقد عليها لابنه الأمير أبي زيان منديل وأنزله بركوان مقربة مالقة واستوصاه بأن لا يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا وعقد لعياد بن أبي عياض العاصمي على مسلحة أخرى وأنزله بأصطبونة وأجاز ابنه الأمير أبا يعقوب لتفقد أحوال المغرب ومباشرة أموره فأجاز في أسطول القائد محمد بن القاسم الرنداحي قائد سبتة وأوعز إليه بالبناء على قبر أبيه أبي الملوك عبد الحق ولقيه إدريس بتافرطست فاختط هنالك رباطا وبني على قبورهم أسمنة من الرخام ونقشها بالكتابة ورتب عليها قراء لتلاوة القرآن ووقف على ذلك ضياعا وفدنا وهلك خلال ذلك وزيره يحيى بن أبي منديل العسكري لمنتصف رمضان ثم اعتل بعد ذلك أمير المسلمين لشهر ذي الحجة واشتد وجعه وهلك لآخر محرم سنة خمس وثمانين وستمائة والله أعلم.

.الخبر عن دولة السلطان وما كان فيها من الأحداث وشأن الخوارج لأول دولته:

لما اعتل أمير المسلمين أبو يوسف بالجزيرة مرضه نساؤه وطيرن الخبر إلى ولي العهد الأمير أبي يعقوب وهو بمكانه من المغرب فأغذ السير وقضى أمير المسلمين قبل وصوله فأخذ له البيعة على الناس وزراء أبيه وعظماء قومه وأجاز إليهم البحر فجددوا بيعته غرة صفر سنة خمس وثمانين وستمائة وأخذوها على الكافة وانعقد أمر السلطان يومئذ ففرق الأموال وأجزل الصلات وسرح السجون ورفع عن الناس الأخذ بزكاة الفطر ووكلهم فيها إلى أمانتهم وقبض أيدي العمال عن الظلم والاعتداء والجور على الرعايا ورفع المكوس ومحا رسم الرتب وصرف اعتناءه إلى إصلاح السابلة وكان أول شيء أحدث من أمره إلى أن بعث ابن الأحمر وضرب موعدا للقائه فبدر إليه ولقيه بظاهر مربالة لأول ربيع ولقاه مبرة وتكريما وتجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي كانت لمملكته ما عدا الجزيرة وطريف وتفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة ورجع السلطان إلى الجزيرة ووافاه بها وفد الطاغية شانجة مجددين عقد السلم الذي عقد له أمير المسلمين عفا الله عنه فأجابهم ولما تمهد أمر الأندلس ومر عن النظر فيها عهد لأخيه أبي عطية العباس على الثغور الغربية والإمارة عليها وعقد لعلي بن يوسف بن بزكاسن على مسالحها وأمده بثلاثة آلاف من عساكره وأجاز إلى المغرب فاحتل بقصر مصمودة سابع ربيع الثاني ثم ارتحل إلى فاس واحتل بها لاثنتي عشرة خلت من جمادى ولحين استقراره بدار ملكه خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في إخوته وبنيه وذويهم ولحق بجبل ورغة ودعا لنفسه وسرح إليه السلطان أخاه أبا معروف فبدا له في النزوع إليهم ولحق بهم فأغزاهم السلطان عساكره وردد إليهم البعوث والكتائب وتلطف في استنزال أخيه فنزل عن الخلاف وعاد إلى حسن طاعته وفر أولاد إدريس إلى تلمسان وتقبض عليهم أثناء طريقهم وسرح السلطان أخاه أبا زيان إلى تازى وأوعز إليه بقتلهم بمليلي خارج تازى لرجب من سنة خمس وثمانين وستمائة ورهب الأعياص عند ذلك من بادرة السلطان ففرقوا ولحق بغرناطة أولاد أبي العلاء إدريس بن عبد الحق وأولاد يحيى بن عبد الحق وأولاد عثمان بن يزول ورجع أولاد أبي يحيى إلى السلطان بعد اقتضاء عهده وأمانه وهلك أخوه محمد بن يعقوب بن عبد الحق لشعبان من سنته وهلك عمر ابن أخيه أبي مالك بطنجة ثم خرج على السلطان عمر بن عثمان بن يوسف العسكري بقلعة قندلاوة ونبذ الطاعة وأذن بالحرب وأوعز السلطان إلى بني عسكر ومن إليهم من القبائل المجاورين لها فاحتشدوا له ونازلوه ثم نهض بركابه وعساكره إلى منازلته واحتل بسدورة وخافه عمر على نفسه وأيقن أنه أحيط به فسأل الأمان وبذله السلطان عل شريطة اللحاق بتلمسان فبعث من يوثق به من الخبرة فنزل فوفى له السلطان بعهده ولحق بتلمسان بأهله وولده.
ثم ارتحل السلطان في رمضان من سنته إلى مراكش لتمهيد أنحائها وتثقيف أطرافها واحتل بها في شوال واعتمل النظر في مصالحها ونزع خلال ذلك طلحة بن محلى البطوي إلى بني حسان من المعقل وخرج على السلطان ودعا لنفسه وعقد السلطان لمنصور ابن أخيه أبي مالك على العساكر وعهد له بولاية السوس وسرحه لاستنزال الخوارج ومحو آثار الفساد وارتاب بمكان أخيه عمر فغربه إلى غرناطة فقتله أولاد أبي العلاء يوم وصوله إليها فسار الأمير منصور في الجيوش والكتائب وغزا عرب المعقل وأثخن فيهم وقتل طلحة بن محلى في بعض حروبهم لثلاث عشرة في جمادى سنة ست وثمانين وستمائة وبعث برأسه إلى سدة السلطان فعلق بتازى ثم نهض في رمضان لغزو المعقل بصحراء درعة لما أضروا العمران وأفسدوا السابلة وسار إليهم في اثني عشر ألفا من الفرسان ومر على بلاد هسكورة معترضا جبل درن وأدركهم بالقفر نواجع فأثخن فيهم بالقتل والسبي واستكثر من رؤسهم فعلقت بشرفات مراكش وسجلماسة وفاس وعاد من غزوه إلى مراكش آخر شوال فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم الولاية عليها من لدن غلب الموحدين لما وقع من الارتياب بأولاد محلى لما أتاهم كبيرهم طلحة فنكب غزة المحرم من سنة سبع وثمانين وستمائة وهلك في محبسه لشهر صفر بعده وهلك على ذلك المزوار قاسم بن عتو وعقد السلطان على مراكش وأعملها لمحمد بن عطو الجاناتي من موالي دولتهم ولاء الحلف وترك معه ابنه أبا عامر ثم ارتحل إلى حضرة فاس فاحتل بها منتصف ربيع ووافته بها عرسه بنت موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق من غرناطة في وفد من وزراء ابن الأحمر وأهل دولته فأعرس بها وكان بعث إلى أبيها من قبل في الاصهار بها ووافت معها رسل ابن الأحمر يسألونه التجافي عن وادي آش فأسعفهم بها كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.